تعرّف الكابالا بأنها التصوف في العقيدة اليهودية، أو المعارف الغامضة التي لا يتم الكشف عنها إلا للخاصة الذين يستطيعون التواصل مع الجوهر الإلهي الممتد في الكون والذي يسع الكون كله، وخلال ذلك يكتسبون المعارف الباطنية ويطلعون على الكثير من الأسرار.
تتكون الكابالا من مجموعة من التقاليد الباطنية التي ترجع إلى العصور التوراتية والتي مازالت حية إلى يومنا هذا، وهي تتعامل مع موضوعات هامة مثل طبيعة الخالق وخلق الكون، والمسيح المنتظر، ونشوة التصوف، والحياة في العالم الآخر.
وتفرض الكابالا الكثير من القيود على المبتدئين فيما يخص العمر والتقوى والمعرفة، وتتضمن الكثير من الاكتشافات التلمودية والتوراتية القديمة عن نسل ينتمي إلى عرش الخالق، وكيفية خلق العالم، كما تتضمن بعض الممارسات والطقوس الخاصة وهي تلقى قبولًا من شرائح واسعة حول العالم.
تاريخ ونشأة الكابالا
يعود تاريخ الكابالا يعود لمدينة عدن اليمنية وقد نشأت كتقليد يتم به انتخاب الصالحين ممن لديهم معارف تؤهلهم لتدريس الحكمة، ويعتقد البعض أن المعرفة المستوحاة من التوراة هي أصل الكابالا بينما يعتقد البعض الآخر أنها موجودة منذ أن خُلق أدم ووجد على الأرض.
الكابالا فى العصور الوسطى
تطورت ممارسات الكابالا فى العصور الوسطى وانتقلت إلى أوروبا في القرن الثالث عشر، حيث انتشرت في إسبانيا وجنوب فرنسا، وكان علماء اليهود في تلك الحقبة يدعون أن ما لديهم من معارف قد تم تناقله إليهم شفهيًا من موسى عبر العصور، ولقد ركّز هؤلاء على قسمين من التوراة يحرم التلمود مناقشتهما وهما وصف الخلق كما جاء في سفر التكوين، ورؤيا حزقيال للمركبة الكونية.
وأثناء تلك الحقبة تمت كتابة “الزوهر” الذي يعد الكتاب الرئيسي للكابالا، ولقد سعى الكباليون لفهم النصوص التوراتية وغيرها من النصوص اليهودية بعمق، وتمكنوا من وضع نماذج معقدة للكون ووصفوا ملكوت السماوات وتعلموا كيف يمكن للبشر أن يتجاوزوا كياناتهم البشرية ويتصلون بالله في أمجاده.
المدارس الصوفية اليهودية
ظهرت مدارس الكابالا لاحقًا وأشهر هذه المدارس “هيتشالوت وبايتيست” الألمانيتين ومدرسة “زوهارك كابالا” ومدرسة “النشوة” لإبراهيم أبو العافية، وتعاليم “إسحاق لوريا”، وكلها تدين بعظيم الفضل للمدارس القديمة.
أصول الكابالا في الكتاب المقدس لليهود
لم يُذكر التصوف اليهودي في الكتب المقدسة لليهود بشكل مباشر، ولكن هناك الكثير من الدلالات التي تشير إلى هذه الممارسات، ومن ذلك صور السحر والعرافة التي قام بها موسى كتحويل العصا إلى ثعبان أو الرؤى الإلهية التي كانت تنتاب يعقوب، أو رقص الملك داوود منتشيًا عند دخوله للقدس، ومن ذلك أيضًا رؤية حزقيال للمركبة الإلهية “ماركاباه”.
أبعاد التصوف اليهودي (الكابالا)
هناك ثلاثة أبعاد رئيسية للتصوف اليهودي يتفهمها القليل من الناس وهي، التحقق من المعارف، ثم اختبار لك المعارف، ثم تطبيقها عمليًا.
فالمتصوف اليهودي يستقصي العلوم الكونية الخفيّة ويعرف أسرار الكون المخفية التي تتضمن نظامه وأصوله، فيصبح باطنيًا ويتمكن من تفسير النصوص المقدسة تفسيرًا متقدمًا لا ينبغي إلا للصفوة ويعرف خفايا هذه النصوص، ويمكن أن يتحقق ذلك نقلًا عن معلم كابالا أو بواسطة وحي من كائنات أسمى مثل الملائكة والأرواح.
الكابالا فلسفات ميتافيزيقية
والكابالا ليست ضد المنطق وإعمال العقل ولكنها تهتم بالميتافيزيقا (الغيبيات) وهي تتبنى الأفكار الفسلفية والعلمية وتتوسع في كافة أنواع العلوم والمعارف.
ويتم تجريب المعارف في الكابالا عبر محاولة التواصل مع الإله بدون وسطاء، إنهم يسعون للوصول إلى النشوة الروحية ، فيعيشون حياة منضبطة على المستوى الروحي، ويتسمون بالزهد، ويقومون بكل فروضهم الدينية، كما يخلقون ممارساتهم الشخصية الخاصة.
أما البعد العملي للكابالا فيتضمن طقوس اكتساب وممارسة القوة وذلك من خلال تنفيذ الوصايا واستدعاء الملائكة والشياطين والتحكم فيهم، والاستفادة مما يمكن أن يمنحوه للفرد من قوى خارقة، وتنفيذ رغبات الله في تقديم الخير وإخضاع الشر والشفاء والإصلاح.
التصوف التلمودي والمركاباه
ويبنى التصوف التلمودي على رؤية حزقيال، وما توصل إليه علماء الكابالا ممن بحثوا في هذه الرؤية وما تعنيه وما ورائها من أسرار، ولقد احتفظ هؤلاء العلماء بالأسرارالتي تمكنوا من كشف النقاب عنها، ولكنهم لا يبدون هذه الأسرار للعامة، ولكن يتم مناقشتها في تجمعاتهم الخاصة، ويتم تناقلها شفهيًا لمجموعات محدودة من التلاميذ.
وهناك قصة يضرب بها المثل فيما يمكن أن تفعله الأسرارالباطنية في العقيدة اليهودية بمن هم غير مؤهلين لحمل تلك الأسرار، وتقول القصة أن أربعة حاخامات كانوا ينظرون معًا إلى رؤية إلهية فمات أحدهما، وجنّ الثاني، وتحول الثالث إلى مهرطق، بينما خرج الرابع من تلك الرؤية بسلام!!
كتاب الخلق Sefer Yetzirah
وضع كتاب الخلق بعد التلمود، وهو كتاب معني بقصة الخلق وهو يصف الخلق باعتبار أنه تعويذة إلهية مكونة من أحرف الأبجدية العبرية مضاف إليها عشرة أرقام ويمكن من خلالها خلق بعض المجسمات.
ولقد ساعد هذا الكتاب على تطور الكابالا على الرغم من أنه قد تم استبداله فيما بعد بأعمال أكثر تعقيدًا تحتوي على ما هو أكثر بكثير من المذكور في ذلك الكتاب، ويمكن اعتبار قصة الخلق أول أشكال التصوف المنهجي في العقيدة اليهودية.
كتاب السطوع Sefer Habahir
كتاب السطوع كتاب صوفي مجهول يقال أن حاخام يهودي من القرن الأول الميلادي هو من كتبه ويسمى “نهونيا بن حقّانة” ويعدّ من أعمال الصوفية الباطنية اليهودية، ويقول الكباليون أن الكتاب نزل إليهم على دفعات، وأنه جُمع من مخطوطات وقطع متناثرة.
يقول الكاتب فى هذا الكتاب ان الناس لم تعد تبصر ضوء الله الساطع لأنهم منعزلين، وبه شرح لأشكال الحروف العبرية والأهمية الصوفية لتلك الحروف ولآيات الكتاب المقدس، وللنقاط على الحروف، وكيفية استخدام الأسماء المقدسة في السحر.
كتاب الروائع Sefer HaZohar
وهو كتاب من القر ن الثالث عشر الميلادي مكتوب باللغة الأرامية ويعد النص الكلاسيكي للتصوف اليهودي أو الكابالا، ولقد أعطى زوهار الزخم للباطنية اليهودية وله من القداسة ما يداني التلمود والتوراة لدى الكاباليين.
وينقسم الكتاب إلى عدة وحدات، أحدهم تتعامل مع المعاني الرمزية والصوفية لنصوص التوراة، من نشيد الإنشاد ومن سفر راعوث، وترتبط المواعظ فيه بخطابات وأمثلة معبرة، أغلبها يحكي عن “سمعان بن يوجاي” وتلاميذه وهو حاخام عاش في القرن الثاني الميلادي.
موسى دى ليون
ويعتقد أغلب العلماء أن الكتاب ينسب إلى “موسى دي ليون” الإسباني الذي عاش في الفترة (1250 – 1305 م) ولا يستبعد أن يكون الكاتب قد دمج فيه نصوص قديمة.
ويحتوي علم الكونيات في هذا الكتاب على بعض الموضوعات المثيرة للاهتمام، فهو يصور الإله باعتباره ثنائي الجنس ويعطي للعملية الجنسية دور هام في حياة البشر، فما يفعله الناس على الأرض يؤثر فيما يحدث في السماء.
ويعتبر الكتاب أن الخطايا البشرية تسببت في حدوث خلل في العمارة الإلهية، وبسبب ما تعرض له شعب إسرائيل من اضطهاد، وكل ذلك يمكن إصلاحه من خلال تنفيذ الوصايا اليهودية والانخراط في الأعمال الصالحة ودراسة التوراة، ولقد تبنى اليهود المسيانيون (الإنجيليون البروتستانت) هذه المفاهيم ، التي تتفق مع ظهور المسيح المخلص في عقيدتهم.
الحاخام إسحق لوريا “آري”
بعد انتشار كتاب الزوهر في العالم اليهودي، حدث ما يشبه الثورة في الأفكار والممارسات الخاصة بالكابالا، وحاول الكثير من الناس أن يشكلوا تقليدًا صوفيًا منظّمًا على أساس التعاليم الغامضة للكتاب، ولكن كان أنجح هؤلاء هو الحاخام إسحق لوريا المعروف باسم “آري” بمعنى الأسد.
اليهودية الصوفية
أسس آري مدرسته الصوفية اليهودية على أساس ما جاء في زوهار بالإضافة إلى ما قال أنها تعاليم تلقاها من خلال مخاطبته لأرواح الصوفيين الذين ماتوا منذ زمن بعيد، ولقد تبعه طلابه في ذلك وأهمهم حاييم فيتال.
تذكركابالا لوريا أن الله تجلى ذاتيًا من أجل خلق الفضاء الذي سيخلق فيه العالم فتدفق في هذا الفضاء أوعية السفيروت (الجانب الذكري من الإله) ومعها شعاع من الضوء الإلهي، ولم تتمكن الأوعية من تحمل الطاقة الإلهية فتحطمت وخلقت القطع التي تشكل العالم الفاسد المادي، فهذا العالم ما هو إلا شرارات ضئيلة من نور الإله الأصلي، وهذا الظلام الذي نعيشه هو بمثابة منفى، فليس الشعب اليهودي وحده هو من يعيش في المنفى، ولكن الخلق جميعهم.
ومن وجهة النظر هذه فإن المسيح هو من سيثير الشرارات الضوئية الإلهية التي ستكمل إصلاح العالم، وعندها سيذوب العالم المادي في عالم الروح ويتوحد كل شئ بالنور الإلهي.
ساباتاي زيفي
أثر اندماج الكابالا مع المسيحية في انتشار فكرة المسيح المخلّص وأكثر هؤلاء إقناعًا كان رجلًا صوفيًا تركيًا يعرف باسم ساباتاي زيفي، وقد كان يتمتع بشخصية جذابة، وانتشرت أفكاره انتشارًا واسعًا وخاصة في الأوساط اليهودية حيث كان يعرف الكابالية جيدًا، ولقد استولت عليه مشاعر النشوة فأعلن أنه المسيح المنتظر، إلا أنه بعد فترة سقط في حالة من الاكتئاب والحزن وندم على ما فعل، فتم طرده من الجالية اليهودية المحلية لسوء سلوكه.
الا انه سافربعد ذلك إلى الشام واستقبله الناس بحفاوة بالغة، قبل أن تعتقله السلطات التركية وتخيره بين الإسلام أو الموت، فأسلم تاركًا خيبة الأمل لأتباعه.
اليهودية الحسيدية
بعد ارتداد زيفي تعرضت المسيانية (الإنجيلية البروتوستانتية) للقمع مرّة أخرى، قبل أن تعود الكابالا للواجهة مرة أخرى على يد بائع صوفي متجول يعرف باسم “بعل شيم توف” ، وكان أشبه براهب زن يسافر للتبشير في الكثير من مناطق العالم، ولقد تمكن من جذب الكثير من الأتباع، حيث تؤكد الحسيدية على الفرح والعاطفة وعلى قدرة اليهودي على تحقيق أعلى درجات التنوير الروحي والانتشاء.
الكابالا المعاصرة
تمارس الكابالا في عصرنا الحالي على نطاق واسع من قبل اليهود التقليديين برغم بعض المعارضة من أصحاب الفكر العلماني، وهي تستخدم التمائم السحرية والترانيم الكابالية وأشهرها “ليتشا دودي” وبينما يمارس الكثير من الناس هذه الطقوس يظل أغلبهم غير عالمين بالأفكار الصوفية الكامنة خلف ذلك.
كما أنشأت حركة تعلّم غير اليهود مبادئ الكابالا وأصبح لها مراكز مشهورة في العالم، وينتمي إليها الكثير من المشاهير مثل مادونا وديمي مور وبريتني سبيرز، حيث أفتتن الكثير من الناس بالممارسات الصوفية اليهودية.
التأمل في الكابالا
يعتبر البعض أن الكابالا هي شكل من أشكال التأمل الاستبطاني، فهي تجعلك تشعر بالاسترخاء وتصفي ذهنك، وتجعلك تشعر بالتوازن الجسدي والعاطفي وتتخلص من الأفكار المتعلقة بالماضي، وتركز الذهن على الحاضر، وكل ذلك عبر الانعزال عن العالم الخارجي والتركيز على الداخل، من خلال التنفس والترانيم.
وتهدف ممارسات التأمل في اليهودية إلى تحقيق التالي:
– زيادة فهم الإنسان للتوراة.
– تطوير فهم الطقوس الدينية.
– إعطاء توجيهات للصلاة.
– زيادة وعي الفرد بحاجات الآخرين.
– زيادة القدرة على التركيز.
– خلق شعاع من النور الداخلي يتمدد خارجًا.
شجرة الحياة
تضم شجرة الحياة عشرة عقد أساسية “صفيروت” تشير إلى التدفق اللانهائي للطاقة باتجاه المحدود، ويمكن اعتبارها مراحل مختلفة لتدفق الطاقة وحتى إنطلاق الطاقة الإبداعية في الكابالا.
ويمكن استخدام هذه الشجرة كأداة لمعرفة كيف ومتى ستظهر الأشياء والأشخاص في حياتك، واستبصار الأحداث بشكل فعّال، لمساعدتك على اتخاذ القرارات المناسبة في حياتك.
وقد تم وضع تصور شجرة الحياة من قبل أساتذة الكابالا الأوائل في جنوب فرنسا وظلت كما هي منذ ذلك الحين حيث كانت تحتوي على عشرة عُقد، وتمت إضافة العقدة 11 من أجل تشكيل ثالوث الفكر، فالشجرة تنقسم إلى ثلاثيات موضوعة أفقيًا من أجل إظهار تدفق الطاقة عبر قنوات الاتصال الثلاثية التي تربط بين العقد.
والثلاثيات هي العقل والعاطفة والفطرة وهى كما يلى :
الأول : ثالوث الفكر
- “شوكمة” بمعنى الحكمة: وهي بذرة الفكر والبصيرة والإلهام والحدس والوعي الغير مكتمل ويمثلها اللون الأزرق والأسود.
- “بينة” أو الفهم: وهي ما تطلق الأفكار وتصيغ القصة ويرمز لها باللون الأحمر الغامق.
- “دعات” أو المعرفة: وهي التي تدمج الفكرة وتتماهى معها ويرمز لها باللون الرمادي.
الثانى : ثالوث العاطفة
- “تشيزيد” أو الحب الغير مشروط: وبه تتوسع الأفكار وتزيد دائرة المحبة والاهتمام ويرمز له باللون الأزرق.
- “جيفورا” أو قوة الحدود: وهي تعلمك أن تقول “لا” وتضع لنفسك حدود واضحة، وتزيد قدرتك على التركيز ويرمز لها باللون الأحمر.
- “تيفريت” أو الجمال: وفيها التناغم والتعاطف والتوفيق بين الطاقات المتعارضة، ويرمز لها باللون الأصفر.
الثالث : ثالوث الغريزة
- “نيتزاش” أو النصر: حيث التغلُب على العقبات وتنظيم النوايا ويُرمز له باللون البنفسجي.
- “هود” أو الاستسلام: ويعني الاعتراف والقبول وتحديد الأولويات ولونه هو البرتقالي.
- “يسود” أو الأساس: وهو اختيار الحقيقة واختبار صحتها ولونه هو الأخضر.
أما العُقدة الحادية عشرة فهي “مالشوت” أو السيادة اللانهائية وهي أدنى واحدة يصل إليها التدفق من أعلى ولونها هو اللون البني أو لون الأرض.
———————————————————
المصادر
https://reformjudaism.org/beliefs-practices/spirituality/what-kabbalah
www.worldhistory.org/Kabbalah/
https://factsanddetails.com/world/cat55/sub396/item1370.html