رأى دارون
عن تطور الجنس البشرى يعرّف عالم الطبيعة الشهير تشارلز داروين عملية التطور بأنها “إنتقاء طبيعي” أو بعبارة أخرى بقاء الأكثر قدرة على التكيّف، ولقد مرّ التطور الإنساني بعملية تغير طويلة الأمد بداية من أسلافنا الأشبه بالقردة إلى ما هو عليه إنسان العصر الحديث. لقد أثبت العلم الحديث في يومنا هذا أن الجنس البشري قد طرأت عليه الكثير من التغيرات خلال مراحل متعددة من التطور على المستويين السلوكي والجسدي، وأن هذا التطور والارتقاء امتد على مدار ستة ملايين عام.
واليوم، عندما نمعن النظر فيما حولنا، ونرى مآثرنا العلمية والفنية والهندسية كأمر مسلّم به، لا نفكر كثيرّا في أن تطور الجنس البشرى وراءه ستة ملايين عامًا من مراحل ، الارتقاء لنصل إلى ما نحن عليه الأن حيث نعيش في عالم لا يجب أن نشعر فيه بالقلق على بقائنا، بقدر ما نركّز على تطوير جهودنا ومساعينا الخيرية.
الظهور الأول للجنس البشرى
إن أول ظهور للجنس البشري على الأرض كان في القارة الأفريقية، وتحديدًأ في مناطق شرق أفريقيا، ويعتقد العلماء في الوقت الحالي أن هناك ما بين 15 – 20 نوع من البشر قد ظهروا خلال مراحل متعددة من تطور الجنس البشرى ، ومع ذلك لم يتمكنوا على وجه الدقة من تحديد أي العوامل كانت الأكثر تاثيرًا في السماح لبعض الأنواع بالتطور أو تعريضها للإندثار، ولقد قام العلماء بوضع خريطة لتطور الإنسان تبدأ من الإنسان الأول وصولًا إلى إنسان العصر الحديث يمكن التعرف عليها من خلال مراحل التطور التالية :
كائن بروكونسول Proconsul 18 – 15 مليون سنة مضت
ظهر هذا النوع في وقت ظهور الرئيسيات وهى نوع من الثدييات كانت تعيش فوق الأشجار منذ 20 – 14 مليون سنة مضت، ووُجد منها أربعة أنواع مختلفة، تتراوح أطوالها ما بين 19 سم إلى 1.6 متر، وكانت تتغذى بشكل أساسي على الثمار وأوراق الأشجار التي اتخذوها سكنًا لهم، وكانوا يتسلقون باستخدام أطرافهم الأربعة، التي كانت متشابهة في الحجم، وكانوا يفتقرون لوجود الذيل، ويمشون على راحة اليد وليس على الإصبع المنحني مثلما تفعل الثدييات الآخرى في الوقت الحالي.
حفريات فى القارة الافريقية
ولقد عُثر على بعض الحفريات من البروكونسول في القارة الأفريقية وكلها أظهرت أن لها مجموعة صغيرة من الأسنان، ودماغ بسيط التركيب، وجمجمة بدائية، ومن هؤلاء الحفرية التي تعرف باسم “أردي” وهو حفرية من البروكونسول تم اكتشافها في أثيوبيا، بواسطة طالب جامعي، وتعد هذه البقايا الحفرية واحدة من أقدم أسلاف الجنس البشري المعروفة، وعلى الرغم من عدم استكمال الهيكل العظمي للحفرية، إلا أن ما عُثر عليه من بقايا أظهرت أن هذا النوع كان يتمتع بوجود أقواس سمحت لهم بالمشي على الطرفين الخلفيين “القدمين”، وأنهم كانوا قادرين على المشي باستقامة، وإن لم يكن بنفس السهولة التي نتمتع بها اليوم، وهذا التطور أعطاهم قدرة أكبر على استخدام الطرفين العلويين في الأكل بحرية أكبر وسمح لهم بالقيام ببعض الأعمال الآخرى.
كائن أسترالوبيثكس Australopithecus2 – 3.9 مليون سنة مضت
بعد مرور ملايين السنين، وحدوث تغيرات كبيرة في حالة الطقس، ظهر أسترالوبيثكس وهو التالي في تاريخ تطور الجنس البشري، وكان هذا النوع قادرًا على المشي بشكل أفضل مما كان عليه البروكونسول، ولقد تم اكتشاف جمجمة أسترالوبيثكس أفارينسيس بواسطة عمًال المحاجر في عام 1924، وتم تسمية الحفرية باسم “تونغ تشايلد” ولقد ساعدت هذه الحفرية على معرفة أنهم كانوا يأكلون أوراق الأشجار وثمار الفاكهة في الغالب. وعلى الرغم من أن نوع أسترالوبيثكس بوجه عام كان يأكل العشب والخضر والفاكهة والدرنات، إلا أنه قد تم اكتشاف سبعة انواع من أسترالوبيثكس لديهم اسنان مدببة مشابهة لما لدى الإنسان المعاصر، وهذا النوع كان صغير الحجم، ولديه جبهة متراجعة، ودماغ أكبر وأكثر تطورًا من النوع السابق، فعجلة التطور تتحرك إلى الأمام.
كائن هوموهابيلس Homo habilis3 – 1.4
مليون سنة مضت
يعتقد أن هذا النوع هو أول ما يمثّل الجنس البشري وظهر خلال حقبة الجلاسيا البليستوسينية، وهو يعرف أيضًا بالإنسان الماهر، ولا يزال الجدل دائرًا حول هذا النوع ، حيث يعتقد أنه أول من استخدم الأدوات الحجرية، فقد صنع رقائقاُ من الحجر للدفاع عن نفسه، ولصيد فرائسه، وهو يعد أول إنسان مسلّح ظهر على الأرض.
وقد تم اكتشاف وجمع حفرية الإنسان الماهر في تانزانيا بين عامي 1962 – 1964 على يد ماري ولويس ليكي ، وكان للحفرية وجه أصغر حجمًا، وأذرع طويلة نسبيًا، وأسنان أصغرمقارنة بالإنسان المعاصر.
كائن هومو إريكتس Homo erectus أو “الإنسان المنتصب” 1.8 مليون – 110 ألف سنة مضت
تم اكتشاف حفريات وأسنان هذا النوع في عشرينيات القرن الماضي، وأُطلق عليه إسم “فتى بكين”، وفي الثمانينيات تم اكتشاف هيكل عظمي متحجّرمن نفس النوع في مدينة جاوة الإندونيسية وأُطلق على الحفرية إسم “رجل جاوة” وفي تلك الحقبة الزمنية عانت القارة الافريقية من الجفاف، ما اضطر الإنسان القديم لترك الأشجار والعيش على الأرض، بمساعدة قدميه المقوسة التي ساعدته على المشي منتصبًا، وتميز هؤلاء بطول الساقين مقارنة بالذراعين، وأطلق عليهم إسم “الرجل المستقيم”.
وبالإضافة إلى ذلك استخدم هؤلاء أدوات الصيد وأكلوا الطعام مطهيًا، ويمكن اكتشاف ذلك من نوع البروتين الذي ينطلق من العظام بالحرق، وكان لهم أسنان أصغر، وأدمغة أكبر، وجمجمة أقل بروزًا، وهناك بعض النظريات التي تعتبر أن الإنسان المنتصب الذي وُجد في آسيا هو نفسه إنسان إرغاستر الذي وجد في أفريقيا، بينما تقول بعض النظريات أخرى بأن النوع الأفريقى هو فصيل آخر من النوع الآسيوى وأنهما تواصلا معًا باستخدام لغة بدائية، أقل تعقيدًا من اللغات المستخدمة حاليًا.
كائن هومو نيدرثلانيسيس Homo neaderthalensis من 400 ألف – إلى 40 ألف سنة مضت
وهو من الأنواع المنقرضة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنوع فرعي ينتمي إلى جنس الإنسان، وتم اكتشاف هذا النوع من الحفريات في فرنسا والصين والبرتغال وإسرائيل، ويبلغ طول الذكور في المتوسط 5 أقدام و 5 بوصات، أما الإناث فيبلغ طولها في المتوسط 5 أقدام و1 بوصة.
هجرة للقارة الأوروبية
تشير النظريات إلى أن الإنسان من نوع هيدلبيرجنيسيس قد هاجر إلى القارة الأوروبية، وأصبح إنسان نياندرثال، بينما أصبح الإنسان الذي استمر في العيش في القارة الأفريقية هو نوع الهومو سيبيان، وأنهما استخدما أدوات صيد معقدة، ودفنوا الموتى، كما صنعوا الملابس وارتدوها، وعاشوا في مأوى يحميهم من العوامل الخارجية، وفي بعض الأحيان كانوا يصنعون أدوات الزينة.
هؤلاء تعرضوا للإنقراض منذ 40 الف عام تقريبًا ولا يرجع ذلك لصراعهم مع الإنسان الحديث، ولكن بسبب تناقص أعدادهم بسبب الهجرة، وما عانوه من مشكلات صحية نتيجة زواج الأقارب، وارتفاع معدل الوفيات بينهم، ما أدى في النهاية لانقراضهم، وتشير بعض النظريات الأخرى إلى أن إنسان نياندرثال كان يعيش على صيد الحيوانات كبيرة الحجم في العصر الجليدي، وبعد التغير المناخي لم يجد ما يأكله نتيجة لانقراض الحيوانات التي كان يتغذى عليها، فتعرّض للانقراض.
كائن هومو سيبيان Homo sapiens أو “الإنسان العاقل” منذ 300 ألف عام وحتى الأن
إنه ذلك النوع الذي ننتمي إليه أنت وأنا وهو بداية المرحلة الأخيرة من تطور الجنس البشرى فى صورته الفيزيقية . إنه هومو سيبيان أو “الرجل الحكيم” ، ذلك الإنسان البدائي العاقل الذي لم يكتف بصناعة أدوات الصيد كأسلافه، ولكنه جعلها أكثر فاعلية وتعقيدًا وأصغر حجمًا، وخلال سنوات قليلة تمكن من صناعة الخطاطيف التي استخدمها في الصيد، كما صنع الرماح والأقواس والسهام، وكانت له لغته المتطورة، ما حسّن من مهارات التواصل بينه وبين نظرائه.
ولم يكتف الهوموسيبيان باكتساب هذه المهارات فحسب، بل نقلها للأجيال التالية، التي تمكنت من صقل مهاراتها وتطويرها أكثر فأكثر، ومنذ 12 ألف عام، تمكنوا من الزراعة، حتى أصبحت الفلاحة هي مصدرهم الأول للحصول على الغذاء، كما تعلموا تربية الحيوانات.
وقد أدى تمكنهم من الزراعة أن جعلوها مصدرًا ثابتًا للغذاء، وهو ما حافظ على الأرواح التي كانت مهددة خلال عمليات الصيد الخطيرة، ولقد تمكن هؤلاء الأسلاف من التحكم في النار واستخدامها لصالحهم، والسيطرة على الحرائق، وتمكنوا من طهي الطعام ما جعلهم يتمتعون بالصحّة، ويعيشون لفترات أطول مع وجود كميات وافرة من الطعام يمكنهم الاعتماد عليها، ويوما بعد يوم تحولت المستعمرات الصغيرة التي كانوا يسكنوها إلى قرى ومدن.
تحديات كانت ومازالت تنتظرنا
لقد مرّ تطور الجنس البشري بتحديات مروّعة، ولكنه تمكن في النهاية من تحقيق سيادته على الأرض، والأمر متروك لنا الآن للإبقاء على جنسنا في المستقبل، فلقد قطعنا شوطًا طويلًا منذ اكتشاف النار وصناعة الأدوات، وأصبح لدينا ميراثا هائلا من العلوم والاكتشافات والتقنيات التي لم تكن لجنسنا من قبل.
لقد حققنا اكتشافات مذهلة ومازلنا نفعل، وأصبحنا أكثر كفاءة وأكثر قوة بما لدينا من علم وفن وثقافة، ويمكننا الآن أن نعرف أكثر عن حقيقة نشأتنا وإلى أين تأخذنا عجلة التطور.